عرض مشاركة واحدة
 
  #50  
قديم 01-06-2011
الصورة الرمزية admin
admin admin غير متواجد حالياً
Administrator
 
تاريخ التسجيل: May 2009
المشاركات: 14,425
افتراضي تفسير جواهر التفسير/ الخليلي (مـ 1942م- ) مصنف و مدقق 1-10 من 28

تفسير جواهر التفسير/ الخليلي (مـ 1942م- ) مصنف و مدقق 1-10 من 28


{ صِرَاطَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ ٱلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِم وَلاَ ٱلضَّآلِّينَ }


فصراط هنا بدل من الصراط الذي ذكر من قبل، وهذا النوع من البدل يعبر عنه النحويون ببدل الكل من الكل، وزعم بعضهم بأن { صِّرَاطَ } الثاني غير { ٱلصِّرَاطَ } الأول، وكأنه نُوى فيه حرف عطف، واختلف هؤلاء في تعيينه، فجعفر بن محمد يرى أنه العلم بالله والفهم عنه، وبعضهم يرى أنه موافقة الباطن للظاهر في إسباغ النعمة، ومنهم من يرى أنه التزام الفرائض والسنن. ودعوى أن { صِّرَاطَ } الثاني غير الأول، ما هي إلا هروب من الواضح إلى المشكل، وفائدة المجيء بالبدل والمبدل منه، التنصيص على أن صراط هؤلاء هو عَلمَ في الإِستقامة، فلو قيل: إهدنا صراط الذين أنعمت عليهم، لم تحصل هذه الفائدة، ومثال ذلك إذا أردت المبالغة في وصف أحد بالكرم والفضل فإنك تقول: (هل أدُلك على أكرم الناس وأفضلهم فلان، فإنك بذلك جعلته علما على الكرم والفضل، بحيث إذا ذكر تُصوِّر الكرم والفضل في أعلى مراتبهما، بين يدي السامع وأمام ناظريه، ولو جئت بأسلوب آخر وقلت: هل أدُلك على فلان أكرم الناس وأفضلهم، لم تفد العبارة هذه المبالغة، وكذلك هنا ذُكر أولا الصراط المستقيم ثم فُسر بصراط الذين انعم الله عليهم، ليكون نصّاً في أن هؤلاء المنعم عليهم هم معالم الإستقامة وأعلام الاعتدال والرشد، يُهتدى بهم إلى مرضاة الرب تعالى.

واختلف في المقصود بهم فالجمهور يرون أنهم النبيون والصديقون والشهداء والصالحون، أخذا من قوله تعالى:

{ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُواْ مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً *وَإِذاً لآتَيْنَاهُمْ مِّن لَّدُنَّـآ أَجْراً عَظِيماً *وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً } [النساء4: 66- 68]

وهذا هو الذي رواه ابن جرير عن ابن عباس رضي الله عنهما، وروي عنه: أنهم المؤمنون. وأخرج عبد ابن حميد عن الربيع بن أنس أنهم النبيون، وقيل: هم قوم موسى وعيسى قبل النسخ والتبديل، وقيل: هم المسلمون، وقيل: أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، وروي عن أبي العالية أنهم محمد صلى الله عليه وسلم وصاحباه أبو بكر وعمر رضي الله عنهم، وانتقد الإِمام محمد عبده تفسير المنعَم عليهم بالمسلمين، محتجا بأن الفاتحة أول سورة نزلت، كما روى عن الإِمام على كرم الله وجهه، وكما حققه الإِمام محمد عبده نفسه.


وإن لم تكن أول سورة على الإِطلاق، فلا خلاف في أنها من أوائل السور ولم يكن المسلمون حال نزول السورة بحيث يطلب الإِهتداء بهداهم، لأن هداهم معقود بالوحي، وتلك هي بداية الوحي، ثم انهم هم المأمورون بأن يطلبوا من الله أن يهديهم هذا الصراط، صراط الذين أنعم عليهم من قبلهم فهم قطعا غيرهم، ورجح الإِمام محمد عبده قول الجمهور أنهم هم الذين أنعم الله عليهم، من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وانتقاد الإِمام موجه إلى الذين يزعمون أن هؤلاء المنعم عليهم هم مسلمو هذه الأمة وهو لا ينافي أن يكون المعنيون - وإن كانوا قبل هذه الأمة - من المسلمين أيضا، لما علمت من أن الإِسلام ليس محصورا في هذه الأمّة، وإنما هو دين جميع النبيين والصالحين، وأوضح الإِمام محمد عبده أن ما جاء من ذكر المنعم عليهم إلى آخره، مجمل لما فصل في سائر القرآن من أخبار الأمم وبيان أحوالها مما يقدر بثلاثة أرباع القرآن تقريباً، والمراد من ذلك توجيه الأنظار إلى الإِعتبار بأحوال الأمم في الكفر والإِيمان، والشقاوة والسعادة إذ لا شيء - يهدي الإِنسان كالمثلات والوقائع، فإذا إمتثل المسلمون الأمر والإِرشاد، ونظروا في أحوال الأمم السالفة، وأسباب علمهم، وجهلهم، ورقيهم، وانحطاطهم، وقوتهم، وضعفهم، وعزهم، وذلهم، وسائر ما يعرض للأمم، كان لهذا النظر أثر إيجابي في نفوس المسلمين، يحملهم على الإِقتداء بالصالحين من قبلهم واتباع أسباب العلم والرقي والقوة والعز، ليتمكنوا في الأرض، واجتناب أسباب الجهل والإِنحطاط والضعف والذل التي تؤدي إلى الشقاوة والهلاك والدمار.
-1-

ثم أشار الأستاذ محمد عبده إلى علم التاريخ، وما فيه من الفوائد والثمرات وذكر أن العاقل تأخذه الدهشة والحيرة إذا سمع أن كثيرا من شيوخ الدين من أمة هذا كتابها يعادون بإسم الدين، ويزهدون فيه غيرهم، كما يرغبون بأنفسهم عنه، زاعمين أنه لا حاجة إليه ولا فائدة منه، ثم قال وكيف لا يدهش ويحار والقرآن ينادي بأن معرفة أحوال الأمم من أهم ما يدعو إليه هذا الدين

{ وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِٱلسَّيِّئَةِ قَبْلَ ٱلْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِمُ ٱلْمَثُلاَتُ } [الرعد13: 6].


وأورد بعد هذا سئوالا وهو: كيف يأمرنا الله باتباع صراط من تقدمنا؟! وعندنا احكام وإرشادات لم تكن عندهم، وبذلك كانت شريعتنا أكمل من شرائعهم، وأصلح لزماننا، وما بعده؟ وأجاب عمّا ذكرناه من قبل أن دين الله في جميع الأمم واحد، وانما تختلف الأحكام بالفروع التي تختلف بإختلاف الزمان، وأما الأصول فلا خوف فيها فالإِيمان بالله وبرسله وباليوم الآخر، وترك الشر وعمل البر، والتحلي بالأخلاق الفاضلة والتخلي عن العادات المذمومة، كل من ذلك أمر مشترك بين الجميع، وقد أمرنا الله بالنّظر فيما كانوا عليه، والاعتبار بما صاروا إليه، لنقتدي بهم في القيام على أصول الخير، وهو أمر يتضمن الدليل على أن في ذلك الخير والسعادة، على حسب طريقة القرآن، في قرن الدليل بالمدلول، والعلة بالمعلول والجمع بين السبب والمسبب، وتفصيل الأحكام التي هذه كلياتها بالإِجمال نعرفه من شرعنا، وهدى نبينا عليه أفضل الصلاة والسلام.
-2-

وزاد السيد محمد رشيد رضا عما قال أستاذه، أن في الإِسلام من ضروب الهداية ما قد يُعَد من الأصول الخاصة به، ويَرى أنه مما يقتضي الاستدراك على ما قرره الأستاذ الشيخ محمد عبده، وذلك نحو بناء العقائد في القرآن على البراهين العقلية والكونية، وبناء الأحكام الأدبية والعملية على قواعد جلب المصالح والمنافع، ودفع المضار والمفاسد، ونحو بيان أن للكون سننا مطّردة تجري عليها عوالمه العاقلة وغيرالعاقلة، وكالحث على النظر في الكائنات لقصد العلم والمعرفة، لما فيها من الحكمة والأسرار التي يرتقي بها العقل، وتتسع بها أبواب المنافع للإِنسان، وكل ذلك مما امتاز به القرآن، وأجاب عن ذلك أنه تكميل لأصول الدين الثلاث، التي بعث بها كل نبي مرسل لجعل بنائه رصينا مناسبا لارتقاء الإِنسان، والأصول الثلاثة هي الإِيمان الصحيح، وعبادة الله تعالى وحده، وحسن المعاملة مع الناس، ولا خلاف فيها في رسالات جميع المرسلين.

والإِنعام أطلق في الآية الكريمة لأن من رُزِق نعمة التوفيق للخير، فكأنما استجمع جميع النعم، والخير بأسره محصور في الإِسلام، فمن هُدي إليه فقد جمع بين نعمة الحال والمآل، وللعلماء رأيان في الكفرة، هل يقال فيهم: إن الله أنعم عليهم أو يمنع ذلك؟ فالمعتزلة يجيزون هذا الوصف في غير المسلمين، وأكثر علماء الكلام من غيرهم يمنعونه، ونجد الفخر الرازي في تفسيره (مفاتيح الغيب) يستدل للقائلين بالمنع بأنه لو جاز نحو هذا الوصف في غير المؤمنين، لأدى ذلك إلى دخولهم ضمنا في قوله سبحانه: { ٱلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } وهذا يقتضي جواز أن يقول الإِنسان في دعائه: (إهدني صراط من أنعمت عليهم من القوم الكافرين) ولما امتنع ذلك بالإِجماع، ثبت لدينا عدم صدق وصف الإِنعام على غير المؤمنين، وأنت إذا تدبرت ما جاء من تقييد في نفس هذه الآية الكريمة إتضح لك بطلان ما يقوله الرازي، فإن قوله سبحانه { غَيْرِ ٱلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِم وَلاَ ٱلضَّآلِّينَ } وصف تقييدي للمنعم عليهم، يُخرج مما يقتضيه إطلاق لفظ الإِنعام، كل من لم يكن على طريقة أصحاب الصراط المستقيم المعنيين في الدعاء، ويدل على ذلك ما جاء في القرآن، من تذكير الناس - مؤمنهم وكافرهم - بآلاء الله، وقد يأتي الخطاب موجها إلى غير المؤمنين، ومما ورد هذا المورد قول الله عز وجل:

{ يَاأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱعْبُدُواْ رَبَّكُمُ ٱلَّذِي خَلَقَكُمْ وَٱلَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ *ٱلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ ٱلأَرْضَ فِرَاشاً وَٱلسَّمَاءَ بِنَآءً وَأَنزَلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ ٱلثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَّكُمْ فَلاَ تَجْعَلُواْ للَّهِ أَندَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ } [البقرة2: 21- 22] وقوله:
{ كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِٱللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ *هُوَ ٱلَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَّا فِي ٱلأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ ٱسْتَوَىٰ إِلَى ٱلسَّمَآءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } [البقرة: 28- 29] وقوله عز وجل


-3-

{ يَابَنِي إِسْرَائِيلَ ٱذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ ٱلَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُواْ بِعَهْدِيۤ أُوفِ بِعَهْدِكُمْ } [البقرة2: 40] وقوله سبحانه:
{ يَابَنِي إِسْرَائِيلَ ٱذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ ٱلَّتِيۤ أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى ٱلْعَالَمِينَ } [البقرة2: 122] وقوله تعالى:
{ لإِيلاَفِ قُرَيْشٍ *إِيلاَفِهِمْ رِحْلَةَ ٱلشِّتَآءِ وَٱلصَّيْفِ *فَلْيَعْبُدُواْ رَبَّ هَـٰذَا ٱلْبَيْتِ *ٱلَّذِيۤ أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ } [قريش106: 1-4].


إلى ما وراء ذلك من آيات الإِمتنان، التي تعم المؤمن والكافر تارة، وتخص الكافرين تارة أخرى، أمّا ما قيل من أن هذه العطايا التي بسطها الله للكفار ليست إنعاما عليهم، وإنما هي استدراج ولا تساوى شيئا، إذا قيست بما ينتظرهم من عقاب، فالجواب عنه: أنه وإن كانت استدراجا فهي لا تنافي أن تكون إنعاما، كما نص عليه الكتاب في خطاب بني إسرائيل، والعقاب العظيم الذي ينتظر الكفار ليس مترتبا على النعم، وإنما هو مترتب على كفرهم بها وبواهبها سبحانه وتعالى، والكفر قد كان باختيارهم، ولم يكونا عليه مكرهين.

والنعمة عرّفها بعض العلماء بأنها الحالة التي يستلذها الإِنسان، وقسمها بعضهم إلى دنيوية وأخروية، والدنيوية إلى روحانية وجسمانية، فالروحانية نفخ الروح وإنارة العقل وإذكاء المشاعر، والجسمانية تكوين الجسم وتجهيزه بالطاقات المختلفة والحواس المتنوعة، والأخروية هي الفوز برضوان الله والسعادة بجواره، في جنات عدن، وهي تترتب على نعمة الهداية المترتبة على التوفيق لاستخدام العقل فيما يؤدي إلى الخير، وبهذا التقسيم يتضح لك أن من النعم ما يكون مشتركا بين المؤمن والكافر، ومنها ما يكون خاصا بالمؤمنين، والمنعم عليهم هنا هم المؤمنون، لأنهم الذين وفقوا لسلوك صراط الحق، المؤدى إلى رضوان الله عز وجل، وطريقهم هو طريق العز والنصر في الدنيا، والفوز والسعادة في الدار الآخرة، فإن الله سبحانه قد وعد بالاستخلاف والتمكين للمؤمنين الملتزمين لنهج الإِيمان

{ وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ مِنْكُمْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي ٱلأَرْضِ كَمَا ٱسْتَخْلَفَ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ ٱلَّذِي ٱرْتَضَىٰ لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لاَ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً } [النور24: 55].


{ غَيْرِ ٱلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِم وَلاَ ٱلضَّآلِّينَ }

الجمهور قرأوا بجر { غَيْرِ } وابن كثير قرأ بنصبها، وروى عنه الجر، ولا إشكال في قراءة النصب، لأن { غَيْرِ } يلزمها التنكير، وإن أضيفت إلى المعارف كمثل، وذلك أنك إذا قلت: رأيت غيرك فكل، ما سوى المخاطب يحتمل أن يكون المراد، وكذلك إذ قلت: رأيت مثلك فإن الاعداد المحتمل قصدها من أمثاله لا تحصى، لكثرة ووجوه المماثلة، وعليه فالنصب هنا على الحال، وأما قراءة الجر فلعلماء العربية فيها رأيان: أولهما أن تكون { غَيْرِ } بدلا من { ٱلَّذِينَ } أو بدلا من الضمير في { عَلَيْهِم } والوجه الثاني ضعيف، وهذا الرأي مبني على جواز الإِبدال بالمشتق وما في حكمه، ويرى أبو حيان ضعفه. ثانيهما: أن تكون { غَيْرِ } صفة للذين وهو مبني على أحد أمرين إما اعتبار { ٱلَّذِينَ } في حكم المعرّف بلام الجنس، وهو المعبر عنه بالمعهود الذهني، فإنه يكون مَعرفة بالنظر إلى مدلوله وله حكم النكرة بالنظر إلى قرينة البعضية المبهمة، ولذلك يعامل معاملتها في الوصف بالجملة وهى في حكم النكرة، نحو قول الشاعر:
-4-

ولقد أمر على اللئيم يسبنيفمضيت ثمت قلت لا يعنيني


وإما اعتبار { غَيْرِ } في حكم المعرفة، نظراً إلى وقوعها بين معرفتين متضادتين، وفي مثل هذه الحالة تكتسب التعريف، نحو قولك: إلزم العلم غير الجهل، وقولك: إرغب في الحياة غير الموت، فإنه لا ضد للعلم إلا الجهل، ولا ضد للحياة إلا الموت، وكذلك قول الله تعالى: { ٱلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } فإن هؤلاء لا ضد لهم إلا ما جاء بعد { غَيْرِ }.

وانتقد أبو السعود إعتبار { ٱلَّذِينَ } في حكم المعهود الذهني في الإِبهام، لأنه لا معنى لأن يضاف بدل { الصراط المستقيم } إلى الموصول إلا لشهرته وتميزه، المنافيين للإِبهام، فإن البدل يراد به إيضاح المبدل منه. أما الزمخشري فإنه سوغ كل واحد من الإِعتبارين. وابن جرير اعتبرهما في حكم الوجه الواحد، وأضاف إليه وجها آخر وهو تقدير { صِرَاطَ } مضاف إلى { غَيْرِ } ، وفي هذا تكلف لا يخفى على متأمل، وأنت إذا نظرت في الرأي الأول، وجدته لا يخلو من مسوغ، فإن توغل { غَيْرِ } في الإِسمية كافٍ لإِعطائها بعض أحكام الجوامد كالبدلية، وإن كانت في حكم المشتق، والوصف أيضا ليس بالضعيف لإِمكان اعتبار إكتساب { غَيْرِ } هنا للتعريف بسبب وقوعها بين ضدين، وقد علمت مما نقلناه عن أبي السعود بطلان دعوى أن الإِسم الموصول في قوله { صِرَاطَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } في حكم النكرة، وبهذا تعلم عدم صحة ما قاله العلامة الساليكوتي وغيره، في تسويغ تلك الدعوى مما حاصله أنه لا صحة لإِرادة جنس المنعم عليهم من حيث هو إذ لا صراط له، ولا غرض يتعلق بطلب صراط من أنعم عليهم على سبيل الاستغراق، سواء أريد استغراق الأفراد والجماعات، أو المجموع من حيث المجموع، فالمطلوب صراط جماعة ممن أنعم عليهم بالنعم الأُخروية وهم طائفة من المؤمنين لا بأعيانها، فإن نظر إلى البعضية المبهمة المستفادة من إضافة الصراط إليهم كالنكرة، وإن نظر إلى مفهومه الجنسي أي المنعم عليهم كان معرفة، نقل ذلك العلامة الألوسي ولم يعقب عليه إلا بقوله: ولا يخلو من دغدغة، وبطلانه يظهر من حيث أن صراط جميع المنعم عليهم صراط واحد، وهو الذي ذكره الله تعالى في قوله:

{ وَأَنَّ هَـٰذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَٱتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ ٱلسُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ } [الأنعام6: 153]

وقد صوره النبي صلى الله عليه وسلم للأذهان في صورة المحسوس، عندما خط خطا في الأرض مستقيما لا عوج فيه، وقال: " (هذا صراط الله) وخط عن يمينه، خطوطا وقال: (هذه السبل، ما من سبيل إلاَّ وعلى رأسه شيطان يدعو إليه) " ثم تلا الآية، وهذا يعني أن صراط أي فرد من المنعم عليهم هو صراط الجنس كله، وليس لكل طائفة منهم صراط خاص، حتى يقال بأن الصراط المقصود هنا هو صراط طائفة من المؤمنين، ويؤكد ذلك أن الصراط المبدل منه معرّف، وما أريد بالبدل إلا مزيد الإِيضاح فلا معنى لمجيئه مبهما، ولو كان مبهما - كما قالوا - لما صح أن يكون علما على الاستقامة ومجانبة الإِنحراف والاعوجاج.

-5-

و { غَيْرِ } هنا أشربت معنى النفي، فلذلك صح أن تقابل بلا النافيه، ولو كانت للإستثناء المحض لما جاز ذلك.

و " الغضب " هو انفعال نفسي يدفع صاحبه إلى الإِنتقام، وهذا لا يليق بجلال الله سبحانه، المنزه عن جميع صفات المخلوقين، فلذلك أول الغضب في مثل هذا المقام، إما بمسبِّبه القريب وهو إرادة الانتقام، أو بمسبّبه البعيد وهو إنزال العقوبة، ولفظة الغضب تدل على الشدة، ولذلك يطلق العرب وصف الغضوب على الناقة العبوس، وعلى الحيّة الخبيثة، ويسمون الدرقة من جلد البعير المطويّ بعضه على بعض " غضبه " كما يسمون بذلك الصخرة المتميزة في الجبل، ومنه قول الراجز: أو غضبة في هضبة ما أمنعا.

و { الضلال } يطلق على الذهاب عن الطريق السوي، ومنه قوله عز من قائل:

{ أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي ٱلأَرْضِ } [السجدة32: 10]

أي غبنا فيها بالموت، ومنه قول العرب: ضل اللبن في الماء إذا إمتزج به.


وجيء بفعل الإِنعام مسندا إلى ضمير الخطاب، الموجه إلى الله، بخلاف الغضب والإِضلال، لأجل تعليم العباد كيف يتأدبون في مخاطبته عز وجل.

وجمهور المفسرين: على أن المراد بالمغضوب عليهم اليهود وبالضالين النصارى، وذكر ابن أبي حاتم أنه لا يعلم خلافا بين المفسرين في ذلك، وهو من التفسير المأثور عن الرسول صلى الله عليه وسلم، فقد أخرج عبد الرزاق وأحمد في مسنده وعبد بن حميد وابن جرير والبغوي وابن المنذر وأبو الشيخ عن عبد الله بن شقيق قال: " أخبرني من سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بوادي القرى على فرس له، ويسأله رجل من بني القيْن فقال: من المغضوب عليهم يا رسول الله؟ قال: (اليهود) قال فمن الضالون؟ قال: (النصارى) " وأخرجه إبن مردويه عن عبد الله بن شقيق عن أبي ذر رضي الله عنه أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فأجابه بما ذكر، وأخرج البيهقي عن عبد الله بن شقيق عن رجل من بني القيْن أنه أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله.. إلخ وأخرج وكيع وعبد بن حميد وابن جرير عن عبد الله بن شقيق قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحاصر أهل وادي القرى فقال له رجل.. إلخ، وأخرج أحمد وعبد بن حميد والترمذي وحسّنه وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن حبان في صحيحه عن عدي بن حاتم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
-6-

" إن المغضوب عليهم هم اليهود وإن الضالين هم النصارى " وأخرج أحمد وأبو داود وابن حبان والحاكم وصححه والطبراني " عن الشريد قال: مرّ بي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا جالس هكذا، وقد وضعت يدي اليسرى خلف ظهري واتكأت على ألية يدي فقال: أتقعد قعدة المغضوب عليم " وهذا التفسير مروي عن جماعة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم منهم ابن مسعود وابن عباس رضي الله عنهما وروى عن الربيع بن أنس وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم وكثير من أئمة التابعين فَمن بعدهم، قال الشوكاني: والمصير إلى هذا التفسير النبوي متعين وهو الذي أطبق عليه أئمة التفسير من السلف.

وعضد هذا التفسير باقتران ذكر اليهود بالغضب وذكر النصارى بالضلال في عدة آيات من الكتاب نحو قوله عز وجل:

{ بِئْسَمَا ٱشْتَرَوْاْ بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَن يَكْفُرُواْ بِمَآ أنَزَلَ ٱللَّهُ بَغْياً أَن يُنَزِّلُ ٱللَّهُ مِن فَضْلِهِ عَلَىٰ مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَآءُو بِغَضَبٍ عَلَىٰ غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُّهِينٌ } [البقرة2: 90] وقوله:
{ قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِّن ذٰلِكَ مَثُوبَةً عِندَ ٱللَّهِ مَن لَّعَنَهُ ٱللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ ٱلْقِرَدَةَ وَٱلْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ ٱلطَّاغُوتَ أُوْلَـٰئِكَ شَرٌّ مَّكَاناً وَأَضَلُّ عَن سَوَآءِ ٱلسَّبِيلِ } [المائدة5: 60] وقوله عز من قائل:
{ لُعِنَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِيۤ إِسْرَائِيلَ عَلَىٰ لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ٱبْنِ مَرْيَمَ ذٰلِكَ بِمَا عَصَوْا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ } [المائدة5: 78] وقوله تعالى:
{ قُلْ يَـٰأَهْلَ ٱلْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ غَيْرَ ٱلْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعُوۤاْ أَهْوَآءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّواْ مِن قَبْلُ وَأَضَلُّواْ كَثِيراً وَضَلُّواْ عَن سَوَآءِ ٱلسَّبِيلِ } [المائدة5: 77]،

والأوْلى - كما قال الألوسي: الاستدلال بالحديث، لأن الغضب والضلال وردا في القرآن لجميع الكفار على العموم قال تعالى:

{ وَلَـٰكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ ٱللَّهِ } [النحل16: 106] وقال:
{ إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ قَدْ ضَلُّواْ ضَلَٰلاً بَعِيداً } [النساء4: 167] وقال
{ إِنْ هُمْ إِلاَّ كَٱلأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً } [الفرقان25: 44].


واليهود والنصارى جميعا جديرون بوصف الضلال، حقيقون بالغضب، لذا يتوجه السئوال عن وصف اليهود " بالمغضوب عليهم " والنصارى " بالضالين " وأجاب عنه ابن جرير: بأن الله وسم لعباده كل فريق بما تكررت العبارة عنه به وفهم به امره ولم يره ابن عطية هذه الإِجابة تشفي غليلا - وإنها لكذلك - لذلك عدل عنها إلى الجواب، بأن أفاعيل اليهود من اعتدائهم وتعنتهم وكفرهم، مع رؤيتهم الآيات، وقتلهم الأنبياء بغير حق أمور توجب الغضب في عرف الناس فسمى الله ما أحل بهم غضبا، والنصارى لم تصدر منهم هذه الأشياء، وإنما ضلوا من أول أمرهم، دون أن يقع منهم ما يوجب غضبا خاصا بأفاعيلهم في عرف الناس بل، الغضب العام الذي يستحقه كل كافر، فلذلك وصفت كل واحدة من الطائفتين بما وصفت به.
-7-

ونقل الفخر الرازي تضعيف هذا التفسير، لأن منكري الصانع والمشركين أخبث دينا من اليهود والنصارى، فكان الإِحتراز عن دينهم أوْلى، واختار الفخر أن يُحمل المغضوب عليهم على كل من أخطأ في الأعمال الظاهرة وهم الفساق، ويَحمل الضالون على كل من أخطأ في الإِعتقاد، لأن اللفظ عام والتقييد خلاف الأصل، وذكر وجها آخر وهو أن المغضوب عليهم الكفار، والضالين المنافقون، لأن الله تعالى بدأ بذكر المؤمنين والثناء عليهم في أوائل البقرة ثم ثنَّى بذكر الكفار وتوعّدهم، ثم ثلّث بذكر المنافقين وتصوير أحوالهم، فيُحتمل أن يكون المغضوب عليهم هنا الكفار والضالون المنافقين كما أن المُنعَم عليهم المؤمنون، ورد ذلك الألوسي بأنه لا قول لقائل، ولا قياس لقايس بعد قول رسول الله صلى الله عليه وسلم الصادق الأمين، وحكى القرطبي أن المغضوب عليهم هم متبعو البدع، والضالين هم الذين ضلوا عن سنن الهدى وذكر عن السُّلَمِيّ في حقائقه، والماوردي في تفسيره، أنهما حكيا: بأن المغضوب عليهم من أسقط فرض هذه السورة في الصلاة، والضالين من ضل عن بركة قراءتها.

قال القرطبي: وليس بشيء، ونقل عن الماوردي قوله: وهذا وجه مردود لأن ما تعارضت فيه الأخبار وتقابلت فيه الآثار، وانتشر فيه الخلاف، لم يجز أن يطلق عليه هذا الحكم.

ويرى بعض المفسرين أن المغضوب عليهم هم الذين نبذوا الحق وراء ظهورهم بعد معرفتهم به، وقيام حجته عليهم، والضالين هم الذين لم يعرفوا الحق رأسا، أو عرفوه على غير وجهه الصحيح، ومن بين القائلين بذلك الإِمام محمد عبده، وأوضح أن المغضوب عليهم ضالون أيضا، لأنهم بنبذهم الحق وراء ظهورهم قد استدبروا الغاية واستقبلوا غير وجهتها، فلا يصلون منها إلى مطلوب ولا يهتدون فيه إلى مرغوب، ولكن فرقا بين من عرف الحق فأعرض عنه على علم، وبين من لم يظهر له الحق فهو تائه بين الطرق لا يهتدي إلى الجادة الموصلة منها، وهم من لم تبلغهم الرسالة، أو بلغتهم على وجه لم يتبين لهم فيه الحق، فهؤلاء هم أحق باسم الضالين، فإن الضال حقيقة هو التائه الواقع في عماية، لا يهتدي معها إلى المطلوب، والعَماية في الدين هي الشبهات التي تلبس الحق بالباطل، وتشبّه الصواب بالخطأ.

وقسّم الإِمام محمد عبده الضّالين إلى أقسام:-

الأول: من حُرموا بلوغ دعوة الرسالة إليهم، أو بلغتهم على غير وجهها الصحيح، فهؤلاء لم يُرزَقُوا من أنواع الهداية إلا ما يحصل بالحس والعقل، وحُرموا رشد الدين ومن الطبيعي أن لا تستقيم أحوالهم في شئونهم الدنيوية، ولو قُدِّر أن استقامت على الوجه الصحيح، فلا محيص لهم عن الضلال فيما تكون به نجاة الأرواح وتتحقق به سعادتها في الدار الآخرة على أنَّ الدين المستقيم من شأنه أن يفيض على أهله من روح الحياة ما تكون به سعادتهم في الدنيا والآخرة معا، فمن حرم الدين حرم السعادتين، وظهر أثر التخبط والإِضطراب في أعماله المعاشية، وحل به الرزايا ما يكون عادة نتيجة الضلال والخبط وهي سنة الله في هذا العالم ولن تجد لسنته تبديلا.
-8-

ويرى الإِمام محمد عبده أن أمر هؤلاء في الآخرة إلى الله إن شاء عفا عنهم وإن شاء أخذهم ولن يساووا المهتدين في منازلهم. وزاد السيد محمد رشيد رضا على كلام أستاذه، أن الذين حُرموا هداية الدين لا يُعقل أن يُؤاخذوا في الآخرة على ترك شيء مما لا يُعرف إلا بهذه الهداية، وهو معنى كونهم غير مكلفين، ونسبه إلى جمهور المتكلمين واستدل له بقوله عز وجل:


وانتقد السيد محمد رشيد رضا من قال إنهم مكلفون بالعقل لعدم ظهور وجه لقوله، إلا إن أراد أن حالهم في الآخرة تكون على حسب ارتفاع أرواحهم بهداية العقل وسلامة الفطرة، لأن الناس يتفاوتون في إدراكهم وأعمالهم، بسبب تفاوت استعدادهم الفطري ولإِختلاف وسائل تربيتهم.

ويرى السيد محمد رشيد رضا بهذا الجمع بين القولين في تكليفهم وعدمه أو الفصل بينهما، وذكر أن ما يعطيهم الله تعالى إياه في الدار الآخرة على حسب ما يكونون عليه من الخير أو الشر، ومن الفضيلة أو الرذيلة هو الجزاء العادل على أعمالهم الإِختيارية ويزيدهم الله من فضله إن شاء.

هذه خلاصة كلامهما وأنت تدري أن من الأمور التكليفية ما تكون طريقة معرفته العقل كمعرفة الخالق عز وجل وصفاته الواجبة وانتقاء أضدادها ولذلك يحيل القرآن الكريم إلى التفكر في ملكوت السماوات والأرض، لأجل الإِهتداء إلى معرفة الخالق وعظمته وتقوية الإِيمان به عز وجل، ويشير القرآن الكريم إلى أن الذين يستفيدون من ذلك هم أولوا الألباب الذين يستخدمون ما وهبهم الله تعالى من طاقات العقل والفكر في استجلاء الحقيقة واستظهار الحق، ومن ذلك قوله عز وجل:

{ إِنَّ فِي خَلْقِ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ وَٱخْتِلاَفِ ٱللَّيْلِ وَٱلنَّهَارِ وَٱلْفُلْكِ ٱلَّتِي تَجْرِي فِي ٱلْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ ٱلنَّاسَ وَمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مِن مَّآءٍ فَأَحْيَا بِهِ ٱلأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍ وَتَصْرِيفِ ٱلرِّيَاحِ وَٱلسَّحَابِ ٱلْمُسَخَّرِ بَيْنَ ٱلسَّمَآءِ وَٱلأَرْضِ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ } [البقرة2: 164] وقوله عز من قائل:
{ إِنَّ فِي خَلْقِ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ وَٱخْتِلاَفِ ٱلْلَّيْلِ وَٱلنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُوْلِي ٱلأَلْبَابِ } [آل عمران3: 190]

والكفار الذين حُرموا نعمة الهداية والدين، قد طمسوا أنوار بصائرهم بما أخلدوا إليه من الكفر وجنحوا إليه من الضلال، ولذلك حكى الله تعالى عنهم قولهم يوم القيامة:

{ لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِيۤ أَصْحَابِ ٱلسَّعِيرِ } [الملك67: 10].


إذا تدبرت ذلك، اتضح لك أن من لاحت له معالم الحقيقة وانكشفت لبصيرته أعلام الحق فتعامى عنها مستمسكا بما ورثه من العقائد، لن يكون سالما، وكذلك الذي لا يكلف نفسه مؤونة البحث عن الحق والتفتيش عن الصواب، أما الذي ينشد الحق ويتبع كل بارقة تلمع له من نوره ويحرص على أداء واجباته الإِجتماعية من غير تفريط فيها فذلك الذي تُرجى له السلامة عند الله.
-9-

على أن الحجة قد قامت على الناس بما يسمعون عنه من أخبار النبوات وأحوال النبيين وما عليهم إلا أن يفتشوا عن ضالتهم المنشوده والله لا يضيع عمل عامل


ونحن نسلم أن الشر هو الحكم في العقائد والأعمال ولكنا نرى وجوب استخدام العقل مع تعذر الوصول إلى الشرع وهذا يقضي أن يتجنب الإِنسان كل ما يستقبحه عقله قبل التوصل إلى حكمه الشرعي ولا ريب أن العقول السليمة كلها تقضي بمنع الإِعتداء والظلم والفساد، لأجل ذلك ذهب من ذهب من علمائنا - كالإِمامين أبي سعيد وابن بركه - إلى وجوب تحكيم العقل عند تعذر الوصول إلى الشرع حتى في الأمور العملية ولهذه المسألة مباحث ليس من غرضنا استيفاؤها، فمن أرادها فليطلبها من مظانها ككتاب الإِستقامة للإِمام الكُدَمي ومشارق أنوار العقول للإِمام السالمي رحمهما الله.

الثاني: من بلغته الدعوة على وجه يؤدي إلى النظر، فساق همته إليه واستفرغ جهده فيه ولكن لم يوفق إلى الإِيمان بما دُعي إليه، وانقضى عمره وهو جاد في الطلب، وهذا القسم لا يتكون إلا من أفراد متفرقين في الأمم ولا ينطبق على شعب بأسره من الشعوب، فلا يظهر له أثر سلبي في أحوال شعب أو أمة، وما يكون لهما من سعادة أو شقاء في الحياة الدنيا، أما منزلة صاحب هذه الحالة في الدار الآخرة، فقد نقل الإِمام محمد عبده عن بعض الأشاعرة، أنه ممن تُرجى له رحمة الله تعالى، وعزا صاحب هذا الرأي مثله عن أبي الحسن الأشعري، وعزا الإِمام محمد عبده إلى الجمهور - بناء على رأيهم - أن مؤاخذته أخف من مؤاخذة الجاحد، الذي أنكر التنزيل واستعصى على الدليل وكفر بنعمة العقل ورضي بحظه من الجهل.

هذا ملخص ما قاله في أصحاب هذا القسم، ولكنني أستبعد جدا أن يتجه إنسان إلى الحق غير راغب عن شيء منه ولا مؤثر لهواه عن بعض ما يقتضيه الحق ويستلزمه الرشد مستخدما كل الوسائل الممكنة له في الوصول إليه، ثم يحال بينه وبينه لأن الله تعالى يقول: { وَٱلَّذِينَ جَاهَدُواْ فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا } والله لا يخلف الميعاد، فلا يتصور هذا بحال وإذا ضل الإِنسان عن جملة الحق أو عن بعضه فما هو إلا نتيجة تقصيره في البحث أو اتباعه الهوى بعدما تبين له الهدى، ومثل هذا لا يصح أن تُرجى له رحمة الله، لأن رحمة الله إنما هى للمتقين.
-10-
__________________
اللهم علمنا ما ينفعنا - وإنفعنا بما علمتنا
اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا إتباعه - وأرنا الباطل باطلا وأرزقنا إجتنابه
اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك
اللهم إجعل عملنا خالصا لوجهك الكريم
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبة وسلم
رد مع اقتباس