عرض مشاركة واحدة
 
  #71  
قديم 02-28-2011
الصورة الرمزية admin
admin admin غير متواجد حالياً
Administrator
 
تاريخ التسجيل: May 2009
المشاركات: 14,425
افتراضي رد: ثناء ابن باز رحمه الله تعالى على كتـــــــــــــاب فقه الزكاة للشيخ العلامة القرضاوي

ترجيح القول بتزكية المال المستفاد عند قبضه
وبعد مقارنة هذه الأقوال، وموازنة أدلة بعضها ببعض، وبعد استقراء النصوص الواردة في أحكام الزكاة في شتى أنواع المال، وبعد النظر في حكمة تشريع الزكاة، ومقصود الشارع من وراء فريضتها، والاستهداء بما تقتضيه مصلحة الإيلام والمسلمين في عصرنا هذا ؛ فالذي أختاره: أن المال المستفاد - كراتب الموظف وأجر العامل ودخل الطبيب والمهندس والمحامى وغيرهم، من ذوى المهن الحرة وكإيراد رأس المال المستغل في غير التجارة كالسيارات والسفن والطائرات والمطابع والفنادق ودور اللهو ونحوها - لا يشترط لوجوب الزكاة فيه مرور حول، بل يزكيه حين يقبضه.
ولكي يتضح رأينا جليا في هذا الموضوع الخطير نضع أمام كل باحث النقاط التالية لكى يظهر الحق مؤيدًا بالدليل:
إن اشتراط الحول في كل مال -حتى المستفاد منه- ليس فيه نص في مرتبة الصحيح أو الحسن الذي يؤخذ منه حكم شرعي عام للأمة، وتقيد به النصوص المطلقة، وهذا ما صرح به علماء الحديث وإنما صح ذلك من قول بعض الصحابة كما ذكرنا.
إن الصحابة والتابعين -رضى الله عنهم- اختلفوا في المال المستفاد فمنهم من اشترط له الحول، ومنهم من لم يشترط، وأوجب إخراج الزكاة منه حين يستفيد المسلم، وإذا اختلفوا لم يكن قول بعضهم أولى من بعض، ورد الأمر إلى النصوص الأخرى، وقواعد الإسلام العامة، كما قال تعالى: (فإن تنازعتم في شئ فردوه إلى الله والرسول)(النساء: 59).
إن عدم وجود نص ولا إجماع في حكم المال المستفاد، جعل المذاهب المعروفة تختلف اختلافًا بينًا في شأنه، مما جعل ابن حزم يرميها بأنها: " كلها دعاوٍ مجردة، وتقاسيم فاسدة متناقضة، ولا دليل على صحة شئ منها، لا من قرآن، ولا من سُنَّة صحيحة، ولا من رواية سقيمة، ولا من إجماع، ولا من قياس، ولا من رأى له وجه".
ولقد عانيتُ بنفسي من اختلاف المذاهب فيما بينها في هذا الأمر، واختلاف الأقوال والطرائق داخل كل مذهب، واختلاف التصحيحات والترجيحات لكل منها، ووجدت عشرات من المسائل وعشرات من التفريعات عليها، تتعلق بما يُستفاد من المال، وأقسامه وأنواعه، هل يُضم إلى ما عنده أو لا يُضم، أم يُضم البعض دون البعض، هل يُضم في النصاب أم في الحَوْل أم كليهما؟ تذكر بحوث حول هذا الأمر في زكاة الأنعام، وفى زكاة النقود، وفي زكاة عروض التجارة، وفي فروع أخر ؛ مما جعلني أستبعد أن تأتي الشريعة السمحة الميسرة التي تخاطب عموم الناس، بمثل هذه التفريعات المعقدة الصعبة في فريضة عامة يُكلَّف بها جمهور الأمة.
إن مَن لم يشترط الحَوْل في المال المستفاد أقرب إلى عموم النصوص وإطلاقها ممن اشترط الحَوْل ؛ إذ النصوص الموجبة للزكاة في القرآن والسُنَّة جاءت عامة مطلقة، وليس فيها اشتراط الحَوْل مثل: "هاتوا رُبع عُشر أموالكم"، "في الرِّقةَ ربع العُشر"، كما يؤيد ذلك عموم قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم)(البقرة: 267).
فقوله: "ما كسبتم" لفظ عام يشمل كل كسب من تجارة أو وظيفة أو مهنة.
وقد استدل الفقهاء بها على زكاة التجارة، فلا غرو أن نستدل بها على زكاة كسب العمل والمهنة، وإذا كان الفقهاء قد اشترطوا الحول في زكاة التجارة فذلك لتعذر الفصل بين أصل المال والربح المستفاد منه، فقد يتحصل الربح يومًا يومًا، وربما ساعة ساعة، بخلاف الرواتب ونحوها فإنها تأتي مستقلة ومقدرة.
وإذا كان عموم النصوص وإطلاقها يسند مَن لم يشترط الحَوْل في المال المستفاد، فإن القياس الصحيح يؤيده كذلك ؛ قياس وجوب الزكاة في النقود ونحوها حين يستفيدها المسلم على وجوب الزكاة في الزرع والثمار عند الحصاد والجذاذ، فإذا كنا نأخذ من الزارع ولو مستأجرًا عُشر زرعه وثمره، أو نصف عُشره، فلماذا لا نأخذ من الموظف أو الطبيب مثلاً رُبع عُشر كسبه؟ وقد قرن الله بين ما كسبه المسلم وما أخرجه الله من الأرض في آية واحدة فقال: (يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من الأرض)، فلماذا نفرق بين أمرين نظمهما الله في عقد واحد، وكلاهما من رزق الله وإنعام الله؟
صحيح أن نعمة الله في إنبات الزرع وإخراج الثمر أظهر، والشكر عليها أوجب، بيد أن هذا لا يسوغ إيجاب الزكاة في أحد المالين أو الدخلين وإعفاء الآخر مطلقًا، حسبنا من الفرق بينهما أن الشارع أوجب في الخارج من الأرض العُشر أو نصفه، وفي المال المكتسب من النقود -أو ما يقدر بالنقود- ربع العشر.
إن اشتراط الحَوْل في المال المستفاد معناه إعفاء كثير من كبار الموظفين وأصحاب المهن الحرة من وجوب الزكاة في دخولهم الضخمة ؛ لأنهم أحد رجلين: إما رجل يستغل كل ما يقبض من إيراده أولا بأول في أي مجال من مجالات التثمير المختلفة، وإما رجل من المترفهين المتوسعين بل المسرفين الذين ينفقون كل ما يكسبون وإن بلغ ما بلغ، ويبعثرونه ذات اليمين وذات الشمال، دون أن يحول عليه حول ومعنى هذا: جعل عبء الزكاة على المعتدلين المقتصدين وحدهم، الذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قوامًا، فهؤلاء هم الذين يدخرون من كسبهم ما يمكن أن يحول عليه الحَوْل، ومن المستبعد أن يأتي الشرع الحكيم العادل بشرط يخفف عن المسرفين، ويضع العبء على كاهل المقتصدين.
إن القول باشتراط الحَوْل في المال المستفاد انتهى إلى تناقض جلى يأباه عدل الإسلام وحكمته في فرض الزكاة.
من ذلك: "أن الفلاح الذي يزرع أرضًا مستأجرة يؤخذ منه -على المفتَى به في المذاهب السائدة- (10%) أو (5%) من غلَّة الأرض إذا بلغت (50) كيلة مصرية بمجرد حصاد الزرع وتصفية الخارج.
أما مالك الأرض نفسه الذي قد يقبض في ساعة واحدة مئات الدنانير، أو آلافها من كراء هذه الأرض، فلا يوجد منه شئ -على المفتى به في المذاهب السائدة أيضًا- لأنهم يشترطون أن يحول الحول على هذه المئات أو الآلاف في يده،وقلما يكون، وكذلك الطبيب والمهندس والمحامى وصاحب سيارات النقل أو صاحب الفندق ..... الخ . وما أدى إلى هذا التناقض إلا التقديس لأقوال فقهية غير معصومة، انتهى إليها اجتهاد علماء يؤخذ من كلامهم ويترك ؛ وما يدرينا أنهم لو أدركوا هذا العصر وشهدوا ما شهدنا، لغيروا اجتهادهم في كثير من المسائل؟ كما هو معلوم من سير الأئمة رضي الله عنهم.
إن تزكية المال المستفاد عقب استفادته، ومنه الرواتب والأجور وإيراد رؤوس الأموال غير التجارية وما في حكمها، وإيراد ذوى المهن الحرة أنفع للفقراء والمستحقين، حيث يمكن أن تأتى بحصيلة ضخمة لبيت مال الزكاة، مع سهولة التحصيل للحكومة، وسهولة دفع الزكاة على الممول، وذلك بأخذها من رواتب الموظفين والعمال في الحكومة والمؤسسات عن طريق ما يسميه علماء الضريبة "الحجز في المنبع" على نحو ما كان يفعل ابن مسعود ومعاوية وعمر بن عبد العزيز -رضى الله عنهم -، من اقتطاع الزكاة من "العطاء" إذا أعطوه، وكلمة "العطاء" تعنى رواتب الجند ومن في حكمهم في ذلك العهد.
قال أبو الوليد الباجي: "العطاء في الشرع واقع على ما يعطيه الإمام للناس من بيت المال على سبيل الأرزاق" (الرواتب).
روى ابن أبى شيبة عن هبيرة قال: "كان ابن مسعود يزكى أعطياتهم من كل ألف خمسة وعشرين" . ورواه الطبراني عنه أيضًا (قال في مجمع الزوائد (3/68) :ورجاله ورجال الصحيح خلا هبيرة وهو ثقة).
وعن عون عن محمد قال: "رأيت الأمراء إذا أعطوا العطاء زكوه" (مصنف ابن أبى شيبة: 4 /42 -44 - طبع ملتان).
وعن عمر بن عبد العزيز: أنه كان يزكى العطاء والجائزة (مصنف ابن أبى شيبة: 4 /42 -44 - طبع ملتان).
وروى مالك في الموطأ عن ابن شهاب أنه قال: "أول من أخذ من الأعطية الزكاة معاوية بن أبى سفيان" (انظر شرح المنتقى على الموطأ: 2 / 95 - طبع السعادة).
ويظهر أنه يريد: أول من أخذ من الخلفاء، فقد أخذها قبله عبد الله بن مسعود كما ذكرنا.
إن إيجاب الزكاة في تلك الدخول المستفادة يتفق وهدى الإسلام في غرس معاني البر والبذل والمواساة والإعطاء في نفس المسلم، والإحساس بالمجتمع، والمشاركة في احتمال أعبائه، وجعل ذلك فضيلة دائمة له، وعنصرًا أساسيًا من عناصر شخصيته .. قال تعالى في أوصاف المتقين: (ومما رزقناهم ينفقون)(البقرة:3) وقال سبحانه: (يا أيها الذين آمنوا أنفقوا مما رزقناكم)(البقرة: 254) ولهذا أوجب النبي -صلى الله عليه وسلم- على كل مسلم صدقة من ماله أو من كسبه وعمله أو مما يستطيع.
روى البخاري عن أبى موسى الأشعري عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "على كل مسلم صدقة"فقالوا: يا نبي الله ؛ فمن لم يجد؟ قال: "يعمل بيده فينفع نفسه ويتصدق" قالوا: فإن لم يجد ؟ قال: "يعين ذا الحاجة الملهوف" قالوا: فإن لم يستطع ؟ قال: "فليعمل بالمعروف وليمسك عن الشر، فإنها له صدقة"(صحيح البخاري كتاب "الزكاة" - باب "على كل مسلم صدقة": 2 / 143 - طبع الشعب).
وإعفاء تلك الدخول المتجددة من الصدقة الواجبة انتظارًا لحولان الحَوْل عليها، يجعل كثيرًا من الناس يكسبون وينفقون وينعمون، دون أن ينفقوا مما رزقهم الله في سبيل الله ويواسوا من لم يؤته الله نعمة الغنى أو القدرة على الاكتساب.
10ـ إن عدم اشتراط الحول للمال المستفاد أعون على ضبط أموال الزكاة وتنظيم شأنها بالنظر للمكلف الذي تجب عليه الزكاة، وبالنظر للإدارة التي تتولى جباية الزكاة، إذ على القول باشتراط الحول يجب على كل من يستفيد مالا -قل أو كثر، من راتب أو مكافأة أو غلة عقار له أو غير ذلك من ألوان الإيراد المختلفة - أن يحدد تاريخ ورود كل مبلغ ؛ ومتى يتم حوله ليخرج زكاته في حينه، ومعنى هذا أن الفرد المسلم قد تكون عنده في العام الواحد عشرات المواقيت لمقادير ما استفاده من أموال في أزمنة مختلفة، وهذا أمر يشق ضبطه، وهو عند قيام الحكومة بجباية الزكاة أمر يعسر حصره وتنظيمه، ومن شأنه أن يعطل جباية الزكاة ويعوق سيرها (المرجع السابق).
__________________
اللهم علمنا ما ينفعنا - وإنفعنا بما علمتنا
اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا إتباعه - وأرنا الباطل باطلا وأرزقنا إجتنابه
اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك
اللهم إجعل عملنا خالصا لوجهك الكريم
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبة وسلم
رد مع اقتباس