عرض مشاركة واحدة
 
  #86  
قديم 04-01-2011
الصورة الرمزية admin
admin admin غير متواجد حالياً
Administrator
 
تاريخ التسجيل: May 2009
المشاركات: 14,425
افتراضي رابعاً: الفضل عن الحوائج الأصلية

رابعاً: الفضل عن الحوائج الأصلية
ومن الفقهاء من أضاف إلى شرط النماء في المال - أن يكون النصاب فاضلاً عن الحاجة الأصلية لمالكه - كما قرر ذلك الحنفية في عامة كتبهم - لأن به يتحقق الغِنى ومعنى النعمة، وهو الذي به يحصل الأداء عن طيب النفس، إذ المحتاج إليه حاجة أصلية، لا يكون صاحبه غنيًا عنه، ولا يكون نعمة، إذ التنعم لا يحصل بالقَدْر المحتاج إليه حاجة أصلية، لأنه من ضرورات البقاء، وقوائم البدن، وكان شكره شكر نعمة البدن، ولا يحصل الأداء عن طيب نفس، فلا يقع الأداء بالجهة المأمور بها في قوله - صلى الله عليه وسلم -: "أدُّوا زكاة أموالكم طيبة بها أنفسكم" فلا تقع زكاة (بدائع الصنائع للكاساني: 2/11. والحديث المذكور رواه الطبراني عن أبي الدرداء وهو ضعيف).
ومن الفقهاء من اعتبر شرط النماء مغنيًا عن هذا الشرط، وذلك أن الأشياء التي يُحتاج إليها حاجة أصلية لا تكون في العادة نامية ولا مُعَدة للنماء، كما يتضح ذلك في دار السكنى، ودابة الركوب، وثياب اللبس، وسلاح الاستعمال، وكتب العلم، وآلات الاحتراف ونحوها، فكلها من الحاجات الأصلية، وهي مع ذلك غير نامية.
وقالوا: إن حقيقة الحاجة أمر باطن لا يوُقف عليه، فلا يُعرف الفضل عن الحاجة، فأقيم دليل الفضل عن الحاجة مقامه، وهو الإعداد للإسامة والتجارة
(البدائع: 2/11)
. وهذا الإعداد هو الذي يتحقق به معنى النماء المشروط من قبل.
والحق أن شرط النماء لا يغني عن هذا الشرط، لأنهم اعتبروا النقود نامية بطبيعتها، لأنها مخلوقة للتداول والاستثمار وإن لم ينمها صاحبها بالفعل، فلولا هذا الشرط لاعْتُبِر الذي معه نصاب من النقود محتاج لطعامه أو كسوته أو سكناه أو علاجه، أو لحاجة أهله وولده، ومَن يجب عليه عوله - غنيًا يجب عليه الزكاة، مع أن المحققين من العلماء اعتبروا المشغول بالحاجة الأصلية كالمعدوم (انظر: الدر المختار وحاشية ابن عابدين عليه: 2/6)
.
وإنما قلنا: الحاجة الأصلية، لأنه حاجات الإنسان كثيرة ولا تكاد تتناهى، وخاصة في عصرنا الذي تكاد تصبح فيه الكماليات حاجيات، والحاجيات ضروريات، فليس كل ما يرغب فيه الإنسان يُعد حاجة أصلية، لأن ابن آدم لو كان له واديان من ذهب لابتغى ثالثًا، ولكن الحاجات الأصلية ما لا غنى للإنسان عنه في بقائه، كمأكله وملبسه ومشربه ومسكنه، وما يعينه على ذلك من كتب علمه وفنه، وأدوات حرفته ونحو ذلك.
وقد فسَّر بعض علماء الحنفية الحاجة الأصلية تفسيرًا علميًا دقيقًا فقال: هي ما يدفع الهلاك عن الإنسان تحقيقًا، كالنفقة ودور السكنى وآلات الحرب، والثياب المحتاج إليها لدفع الحر والبرد، أو تقديرًا: كالدَيْن، فإن المدين يحتاج إلى قضائه بما في يده من النصاب ليدفع عن نفسه الحبس الذي هو كالهلاك، وكآلات الحرفة، وأثاث المنزل، ودواب الركوب، وكتب العلم لأهلها، فإن الجهل عندهم كالهلاك، فإذا كان له دراهم مستحقة أن يصرفها إلى تلك الحوائج صارت كالمعدومة، كما أن الماء المستحق بصرفه إلى العطش كان كالمعدوم وجاز عندهم التيمم
(حاشية ابن عابدين: 2/6، والبحر الرائق: 2/222، نقلاً عن ابن الملك في شرح المجمع)
.
ومما نسجله بكل إعجاب وتقدير لعلمائنا: أنهم اعتبروا العلم حياة، والجهل موتًا وهلاكًا، واعتبروا ما يدفع الجهل عن الإنسان من الحاجات الأساسية كالقوت الذي يدفع عنه الجوع، والثوب الذي يدفع عنه العري والأذى، كم اعتبروا الحرية حياة، والحبس والقيد هلاكًا أو كالهلاك.
والذي نراه على كل حال: أن الحاجات الأصلية للإنسان قد تتغير وتتطور بتغير الأزمان والبيئات والأحوال. والأولى أن تُترك لتقدير أهل الرأي واجتهاد أولي الأمر.
والمعتبر هنا: الحاجات الأًصلية للمكلَّف بالزكاة، ومن يعوله من الزوجة والأولاد - مهما بلغ عددهم - والوالدين والأقارب الذين تلزمه نفقتهم، فإن حاجتهم من حاجته.
وبهذا الشرط سبق الفقه الإسلامي -بقرون طويلة- أحدث ما وصل إليه الفكر الضريبي الحديث، الذي نادى بإعفاء الحد الأدنى للمعيشة من الضريبة، والتخلص من النظرة "العينية" القديمة التي تنظر إلى "عين المال" دون "شخص صاحبه"، وظروفه وحاجاته وديونه وأعبائه العائلية، واعتبروا النظر إلى "شخصية الممول" وظروفه الخاصة تطورًا وارتقاءً في عالم الفكر والتشريع الضريبي، هذا مع أن كثيرًا من رجال المالية لا يطبقون تلك النظريات في كثير من البلدان، فقد يعفون الحد الضروري لمعيشة الفرد وحده، أو هو وثلاثة من أولاده، وإن كان لديه سبعة أو عشرة من الأولاد، غير ملتفتين إلى من يعولهم من الوالدين والأقارب.
أدلة هذا الشرط من القرآن والسنة
ومما يدل لهذا الشرط -فضلاً عما ذكره الفقهاء من الوجوه العقلية- ما رواه الإمام أحمد في مسنده عن أبي هريرة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إنما الصدقة عن ظهر غنىً"، وفي رواية: "لا صدقة إلا عن ظهر غنى" (الحديث رقم (7155) من المسند. قال الشيخ أحمد شاكر: إسناده صحيح. انظر التعليق عليه في الجزء 12 من المسند، وانظر فتح الباري: 3/189).
وذكره البخاري بهذا اللفظ معلقًا في كتاب الوصايا من صحيحه، وجعله عنوانًا لباب من كتاب الزكاة، قال فيه: (باب) لا صدقة إلا عن ظهر غنى، ومن تصدق وهو محتاج، أو أهله محتاجون، أو عليه دين، فالدَّيْن أحق أن يُقضى من الصدقة، قال الحافظ في شرح هذا العنوان: كأنه أراد تفسير الحديث المذكور بأن شرط المتصدق ألا يكون محتاجًا لنفسه أو لمن يلزمه نفقته"
(فتح الباري: 3/189)
. ولا شك أن الزكاة صدقة، كما عبَّر عن ذلك القرآن والسنة.
كما يدل لاعتبار ذلك الشرط قوله تعالى: (ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو) (البقرة: 219) فعن ابن عباس: العفو ما يفضل عن أهلك (تفسير ابن كثير: 1/256)
.
قال ابن كثير: وكذا روي عن ابن عمر، ومجاهد، وعطاء، وعكرمة وسعيد بن جبير، ومحمد بن كعب، والحسن، وقتادة، والقاسم، وسالم، وعطاء الخراساني، والربيع بن أنس وغير واحد، أنهم قالوا في قوله: "العفو"، يعني: الفضل
(تفسير ابن كثير: 1/256)
.
ومعنى هذا أن الله جلَّت حكمته جعل وعاء الإنفاق ما زاد عن الكفاف، وما فضل عن الحاجة - حاجة الإنسان لنفسه وأهله ومَن يعوله - وذلك أن حاجة الإنسان مقدمة على حاجة غيره، وكذا حاجة أهله وولده ومن يعول، بمنزلة حاجة نفسه، فلم يطالبه الشرع بالإنفاق مما يحتاج إليه، لتعلق قلبه به، لمسيس حاجته إليه، لتطيب نفسه بإنفاقه.
وجاء عن الحسن في تفسير الآية: (ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو) قال: ذلك ألا يجهد مالك، ثم تقعد تسأل الناس (تفسير ابن كثير: 1/256)
.
قال ابن كثير: ويدل على ذلك ما رواه ابن جرير بسنده عن أبي هريرة قال:
قال رجل: يا رسول الله ! عندي دينار، قال: "أنفقه على نفسك"، قال: عندي آخر، قال "أنفقه على أهلك" (زوجك)، قال: عندي آخر، قال: "أنفقه على ولدك". قال: عندي آخر، قال: "أنت أبصر"
. وقد رواه مسلم في صحيحه. وهو يدل على أن حاجة الإنسان وأهله وولده مقدمة على حاجة غيره.
وأخرج مسلم أيضًا عن جابر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لرجل: "ابدأ بنفسك فتصدق عليها، فإن فضل شيء فلأهلك، فإن فضل شيء عن أهلك فلذوي قرابتك، فإن فضل عن ذوي قرابتك شيء فهكذا وهكذا"
أهـ.
وإذا كان بعض هذه الأحاديث في صدقة التطوع والإنفاق المندوب لا الواجب، فإنها على وجه عام تدلنا على هدي الإسلام في الإنفاق، وأن وعاءه -كما حددت الآية الكريمة بلفظة موجزة جامعة- هو "العفو"، وأن "العفو" كما فهمه جمهور علماء الأمة -الذين ذكرهم ابن كثير- هو ما فضل عن الحاجة.
__________________
اللهم علمنا ما ينفعنا - وإنفعنا بما علمتنا
اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا إتباعه - وأرنا الباطل باطلا وأرزقنا إجتنابه
اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك
اللهم إجعل عملنا خالصا لوجهك الكريم
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبة وسلم
رد مع اقتباس